بسم الله الرحمن الرحيم
لـــمـــــاذا احـــــب الـــــنــــاس مــــحـــمــــدســــيــــدحــــاج رحمه الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد، فرحِمَ الله فضيلةَ الشيخ العالِم الداعية محمد سيد حاج؛ وإننا إذْ نُعَزِّي والِدَه وأهلَه وعامةَ أهلِ الدَّعوة في السودانِ وخارِجِه، نشهَدُ عند الله تعالى للشيخ محمد سيد رحمه الله بأنه كان رجُلَ قُرآنٍ، وصاحِبَ دعوةٍ وأخلاقٍ كريمةٍ، وتعاوُنٍ تامٍّ مع أهل الدعوة والعلم.
وإن موت العالِم العامل الموفَّقَ فقدٌ عظيمٌ للأمة، كما أخبر بذلك عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو في باب (كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ؟) من صحيح البخاري قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا). [1]
ونريد أن نجيب في كلماتٍ قليلةٍ عن هذا السؤال المهم: لماذا أحب الناس الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله؟ فعَلَيْنا نحن الذين نُحِبُّ أنْ نُنْسَبَ إلى الدعوةِ ونُحْشَرَ مع الدُّعاة إلى الله أنْ نعتَبِرَ بما رأيناه ـ وليس الخبر كالمعاينة ـ من محبة الناس للشيخ محمد سيد، ومن بكائهم عليه وحُزْنِهِم على فَقْدِه ـ وعشرات الصور من التشييعِ العجيب ناطقةٌ في شبكة المشكاة الإسلامية! وكم من الناس يموتون {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29]. قال ابن كثير رحمه الله: "قوله: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} أي: لم تكن لهم أعمالٌ صالحةٌ تصعد في أبواب السماء فتبكي على فَقْدِهم، ولا لهم في الأرض بِقاعٌ عبدوا الله فيها فَقَدَتْهم". [2] وقال السعدي رحمه الله: "{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} أي لما أتلفهم الله وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والأرض أي لم يحزن عليهم ولم يُؤْسَ على فِراقِهم". [3] وقال القرطبي رحمه الله: "وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه
.. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد... يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد: وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل!. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير". [4]
1) فأقول للإجابة على هذا السؤال: بادي ذي بدء نذكِّرُ بأنَّ الله جلَّ جلاله يضَعُ مُحبّةَ الصالحين في قلوبِ الخلق: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. [مريم: 96]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ). [5] رواه البخاري في باب (الْمِقَةِ [6]مِنَ اللهِ تَعَالَى). [7] وترجَمَ له مُسلم رحمه الله ترجمةً حسنةً: (باب إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ). [8]
2) تعود هذا المحبّة إلى خِصالٍ نفسِيةٍ مُحبَّبةٍ تعمّقت في شخصية الشيخ محمد سيد رحمه الله: وذلك لِدِماثةِ خُلُقِه، وكريمِ تعامُلِه، وحُسْنِ بشاشَتِه، وابتِسامَتِه الصادِقة العامِرة بالمودّة. ثم لالتِزامِ الشيخِ محمد سيّد رحمه الله بالهدي النبوي الشريف في إنزالِ الناسِ منزلتَهم.
3) لثباته في المنهج الدعوي المعتدل: وأؤكِّد على توفيقِه في جَمْعِ كلمةِ الناسِ على الإسلام والدعوة؛ فقد كان إمامَ عامّةٍ، وقامَةً سامِقةً فوق الحزبية والعصبية إلى الجماعات. وكان مِثالاً طيِّباً لعِفّةِ اللسانِ وسلامةِ الصدرِ، والترفُّعِ عن الصغائرِ. والشيخ من أكثر المشايخ انفتاحا على الدعاة والعلماء، فقد كان قُدْوةً طيِّبةً في جَمْعِ الكلِمة، يحب العلماء وينصح الحكام، ولا يحمل الحقد على مخالف؛ فلسان حاله ومقاله: [وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا!].
4) لرسوخِ مواقِفِ الشيخ محمد سيد المُشرِّفة وسعة علمِه وفقهِه العميق: وذلك في الذبِّ عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم ـ وما شهادته في قضية صحيفة (الوفاق) وحضوره الدائم ببعيد ـ وقُلْ مثلَ ذلك في تعظيمِه للصحابة الكرام رضي الله عنهم، والدفاع المتواصِلِ عن أشرف الخلق بعد الرسل عليهم السلام. بالإضافة إلى مواقفه الناصحة للحكومة بشجاعة وتجرد وإخلاص، وقد آتت أكلها مرارا.
ويتجلى وعي الشيخ وفقهه الدعوي في موقفه الراسخ في تقدير الخطر الشيعي الداهم على عقائد أهل السودان المحبين للصحابة رضي الله عنهم. ويظهر جليا في وقفات الشيخ محمد سيد حاج في نصرة القضايا الشرعية، وهي مشهودةٌ، وطلبه المناظرة الصريحة في مواجهة أصحاب الفتاوى الشاذة معلومةٌ.
وما موقفه الرشيد من الانتخابات الأخيرة إلا نموذج من محاسن الفقه والموقف؛ حرصا على مقاصد الدين والتمكين للإسلام وأهلِه. فقد قال رحمه الله: أنا لا أومن بالديمقراطية، لكني أرى وجوب أن يختار الناس أصلَحَهم لحراسةِ الدين وسياسة الدنيا.
5) لصِدقِ الشيخ محمد سيد حاج وحرصِه على الإصلاح: فقد كان الشيخ رحمه الله تعالى مصلحاً اجتماعيا بكل معنى الكلمة؛ يؤكد ذلك حُبُّه الصادقُ للمساكين والضعفاء، ورغبته العظيمة في الخير؛ وهذا من بركةِ اتباعِ السُّنة النبوية. فقد ظلَّ يبذلُ النفعَ والنُّصْحَ للحاكمِ والمحكوم، حتى آخر خُطبةٍ له في مِنْبَرِ الجمعة. ودأبَ رحمه الله على نشرِ العلمِ والدعوةِ بإخلاصٍ وتجرُّدٍ، لا يخاف في الله لومةَ لائمٍ.
6) لِمنهجِه الموفَّق: واختياره ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم: وهذه خصيصة العلماء الربانيِّين سَلَفاً وخَلَفاً؛ فقد كانت آخر محاضراتِه رحمه الله عن العنايةِ بالشباب، وكانت آخر خُطَبِه عن الإصلاح السياسي في عهدِ عمر بن عبد العزيز ثم عن واجِبِ الحكومةِ القادمةِ في خِدْمةِ الناسِ ورَفْعِ الحرجِ والمشقةِ عنهم وتقديمِ العَوْنِ للفقراء والمساكين.
7) لِحُبِّ الشيخ رحمه الله الحنيفيّةَ السَّمْحةَ في حياته ومنهج تعامُلِه وأسلوب دعوته. فقد كان نموذجاً يُحْتَذَى في الحوارِ الهادىءِ وأدبِ الخلافِ وفي عِفّةِ اللسان والبراءة من الجفاء والتعسير على الناس.
وفيما يتعلق بالأسلوب اللغوي والخطاب الدعوي: كان الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله تعالى جميلَ العبارة، حُلْوَ الإشارة، يعتمد العناوين الجذابة ـ وهذا موضوع رسالة دكتوراه في الدعوة والإعلام، ودراسات صوتية متعددة؛ فالشيخ رحمه الله ـ بالإضافة إلى فضيلة الشيخ محمد أحمد حسن وفقه الله ـ يُمثِّلان مدرسةً دعويةً تَمِيلُ إلى السهولةِِ والوُضوحِ في الألفاظ؛ فللشيخ رحمه الله خِطابٌ إسلاميٌّ محبوبٌ بعيدٌ عن التكلُّف والتقعُّر، يُحْسِنُ ضَرْبَ الأمثال، وسَوْقَ العباراتِ الدارِجة بأسلوبٍ له دلالاتٌ فَصِيحة، خاصة في سياقِ النُّكتةِ الظريفة والموقِفِ الساخِرِ من السلبيات الاجتماعية والسياسية وعباراته الطريفة في الرد على بعض الشيوعيين في الانتخابات (دايرين حُرِّيّهْ ولاَّ عَرَقي؟!) مشهورة. وله عبارات ظريفة كثيرة: منها: (من الناس من لا يصلح معه إلا 999). واستخدام الشيخ محمد سيد حاج النكتة في الدعوة والإعلام موضوع رسالة ماجستير في الدعوة.
9) وقد كان للشيخ الشاب محمد سيد حاج توفيقٌ عظيمٌ في مخاطبة الشباب وهو العالِمُ الذي لم يتجاوز السادسة والثلاثين من عُمُرِه. نسألُ الله عزَّ وجلَّ أنْ يرفعَ درجاتِه في عِلِّيِّين، وأنْ يَجْزِيَه عن خِدْمَةِ الدَّعوةِ الإسلاميةِ خيرَ الجزاء، وأنْ يَجْعَلَه أُسْوةً لِشبابِ السودانِ في طَلَبِ العِلْمِ ونَشْرِ الدعوة، وبَذْلِ النصيحة، والتجرُّدِ عن حُظوظِ النفس، والمسابقةِ إلى الخير، وخِدْمةِ البلادِ والعبادِ.
10) لقد ترك الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله أمانةً عظيمةً في أعناقِ العُلماءِ والدُّعاة، وترك ميراثاً علميا ودعويا فذاًّ، وضرب لنا مثلا حياًّ في الدفاع عن العقيدة واتباع السلف، والتزام المنهج القويم دون تشنُّجٍ وتعنُّتٍ وتعصُّبٍ. وقد أسقط الأوهام المعششة في بعض العقول: أنَّ الداعية إلى السُّنّة ومنهج السلف لا يمكنه الوصولُ إلى قلوب الناس. فقد ضربَ الشيخ مثلاً في الشخصية المقبولة، وبيَّنَ أنَّ الجفاءَ من سخائمِ النفوسِ وليس من منهج السلف!
وإننا إذْ نشهد بما علِمْنا من فضائلِ الشيخ رحمه الله، نؤكِّدُ أنَّ موتَ الشيخ في رَيعان الشبابِ موعِظةٌ عظيمةٌ لنا؛ فقد تعلَّمَ كلُّ واحدٍ منّا دُنُوَّ أجَلِه وأيقنَ بِقِصَرِ عُمرِه، وقُرْبِ قَبْرِه:
[كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شرَاكِ نَعْلِهِ]. [9]
وإنَّ أعظَمَ ما ينفَعُ الشيخَ بعد وفاتِه: إعداد الموسوعة الصوتية للشيخ محمد سيد حاج، وجمع الأعمال الكاملة للشيخ محمد سيد حاج رحمه الله تعالى من الخطب المنبرية والمحاضرات وغيرها، ووَقْفُها لتكون صدقةً جاريةً وعلماً ينتفع به!
وإنني أقترح كتابة رسائل جامعية من بعض طلاب العلم حول (منهج الدعوة والخطاب الإسلامي) عند الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله. وقد بشرنا د.عبد الله الزبير بحرصه على مناقشة رسالة الشيخ بعد تكوين لجنة المناقشة حول تفردات ابن تيمية الفقهية. وهو موضوع يدل على عُلُوِّ هِمّةِ الشيخ رحمه الله تعالى وغزارة علمِه!
وإننا إذْ نحتسب عند الله تعالى الشيخ محمد سيد نؤكِّدُ أنه فَقْدٌ عظيمٌ لأهلِ القرآن والدعوة، وقد شهد له الأخيار عند الله تعالى بأنه كان إمامَ عامّةٍ، وكان يجمعُ ولا يفرِّقُ، وهذه خصلةٌ عظيمةٌ، وهي صفةُ الرجلِ المبارَك الذي ينفَعُ الناس. وحالنا في فَقْدِ الشيخ الموفَّقِ محمد سيد حاج رحمه الله كحال البخاري رحمه الله "لَمّا نُعِيَ إليه عبدُ الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد:
إنْ عِشْتَ تُفْجَعْ بالأحبّةِ كلِّهم * وبقاءُ نفسِك لا أبا لك أفجَعُ!". [10]
فرحمةُ الله عليه، وجزاه عن الدعوة وأهلِها خير الجزاء، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون